كم من مبصر غارق في بحر من الظلمة والسواد، وكم من كفيف محلق في فضاء التحدي والتميّز، فمن قال أن الإعاقة تقف عائقًا أمام الطموح؟؟ وإن كانت كذلك بالنسبة لكثيرين فهي الجسر الذي أوصل يوسف إلى طريق النجاح، عبر إصراره، وكفاحه. الأستاذ يوسف الذي نتحدّث عنه، هو يوسف بنات، إبن السابعة والستين عامًا، إنسانٌ كفيف، من سكّان قرية الشيخ دنون، عانى منذ نعومة اظافره وتحديدا منذ أن كان عمره ثلاثة أشهر من مرض، أضعف لديه حاسّة البصر شيئا فشيئا، حتّى أصبح كفيفا بشكلٍ كامل.
|
|
|
يعمل على استبدال اليأس بالأمل |
في البداية كانت التحديات أكبر منه ومن قوّة الإرادة التي كانت دائما تهمس في اذنه: "إلى الأمام، لا تيأس فاليأس موت مبكّر، يجب عليك أن تتعلّم وما من أحد يستطيع حرمانك من ذلك"، وليس فقط أن يتعلّم بل أن يصبح معلّمًا، فقد رأى في شخصيّة المعلّم، شخصيّة مثاليّة، يستطيع أن يبني أجيال المستقبل، هذا المستقبل الذي إذا فقد الشيء الأساسي (العلم) فلا قيمة له، أدرك يوسف أن المصاعب ستلاحقه أينما ذهب، لكنه دائما كان وما زال جاهزا نفسيا ومعنويا لتلك المصاعب، فانتقاله من المدرسة الابتدائية في بلده إلى الثانوية في حيفا حملت الكثير من الصعوبات، والتنقل في وسائل النقل العامة لم يكن سهلا، لكنه دوما كان يصل في نهاية المطاف إلى الهدف الذي يريده، فها هو اليوم مدرّسا للغة العربية، العبرية، الانجليزية، التاريخ والعلوم الدينية، في مدرسة راهبات الناصرة للصم والبكم في مدينة الناصرة، ومربيا للصف السادس بها.
يقول الأستاذ يوسف: "نظرة المجتمع لذوي الاحتياجات الخاصة بشكل عام قد تكون فيها الكثير من السلبيات، ومعظم الناس ينظرون إلى الكفيف نظرة شفقة، ولكنهم نسوا أن الكفيف لديه قدرات كاملة في داخله، يستطيع من خلالها أن يكون ليس فقط انسانا عاديا وفعالا، إنما قد يصل بهذه القوة الداخلية والتي نسميها بالبصيرة إلى إنسان مبدع". ويستطرد قائلا: "وخير دليل على ما أقول هو أنني أمارس مهنة التدريس منذ فترة طويلة، وقد توّجتها بحصولي على لقب "معلّم الدولة"، اللقب الذي يطمح إلى نيله كل معلّم أو معلّمة".
التنافس للحصول على هذا اللقب كان على نطاق البلاد بأسرها، فمن بين 4000 معلّم، كان الأستاذ يوسف العربي الوحيد والكفيف الوحيد من الأشخاص الستة الذين نالوا لقب "معلم الدولة"، وهذا اللقب عبارة عن شهادة تقديرية، وسفره إلى الولايات المتحدة والمكوث هناك حوالي أسبوعين. كذلك فالأستاذ يوسف ينتظر جائزة "المعلم الممتاز في منطقة الشمال" التي سيحصل عليها في 14.6.2010.
|
|
|
الشخص الوحيد في منطقة الشمال |
الأستاذ يوسف ليس أستاذا عاديا، بل وليس انسانا عاديا، فهو الشخص الوحيد في منطقة الشمال الذي بإمكانه تصليح مطابع البرايل، ولأن التصليح يحتاج إلى نظرة فقد وجد بديلا للنظر من أجل أن يصل إلى كل نقطة وإلى كل لولب في المطبعة، وذلك من خلال قوة الملاحظة، كما أنه يطبع كتب البرايل على نطاق الدولة لكل إنسان كفيف، أي أنه يزوّد المكفوفين بشكل شامل بكل ما يتعلق في كتابة البرايل، وقد قام بتصليح إحدى مطابع البرايل أمام عدسة موقع "شايف". يقول الأستاذ يوسف أنه سيشتري جهازا يستطيع من خلاله متابعة مواقع الانترنت لوحده ودون مساعدة من عائلته.
وللعلم فالأستاذ يوسف متزوج (وزوجته احتفلت قبل أسبوع بعيد ميلادها، فيهنئها على ذلك ويرسل إليها باقات من الورود عبر موقع شايف)، ولديه ثلاثة أولاد وبنت واحدة، أما "بنات" الذي يرافق اسمه فهو لقب أطلق على عائلته لأن جدّته كانت جميلة جدا، وكانوا ينادونها بست البنات.
"المحاولات المتكررة، الكفاح وعدم اليأس هي أسرار النجاح"، أما المجتمع فبالرغم من أنه بدأ يدرك أن ذي الاحتياجات الخاصة هو إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى إلا انه يجهل أن هذا الانسان هو مبدع، بل ويجهل أمورا كثيرة تتعلق بهذه الفئة، فيحدثنا الأستاذ يوسف عن إحدى النهفات التي حصلت معه بهذا الشأن: "مرّة كان معي كتاب برايل وكنت ماشي بالشارع، أجت سيّارة وقّفت جنبي، هجموا عليّ 3 أو 4 رجال، وكانوا شرطيين، سألوني شو هذا اللي في ايدك؟ قلتلهن: كتاب برايل، قالولي: ما منعرفو ولا منعرف شو مكتوب فيو، فأخذوا الكتاب... رحت على مركز الشرطة، وهددتهن إذا ما برجعولي الكتاب ما بخلّي صحافة وما بتعرف بالموضوع، اجوا خافوا، ورجعوا لعند جارنا لأنهن ما استرجوا يحطوا عندي، فما رضيت بهذا الشي لحتى أجوا هني عندي وتأسّفولي".
موقع "شايف" يهنيء الأستاذ يوسف على الجوائز التي حصل عليها، ويشكر مدرسة راهبات الناصرة للصم والمكفوفين بإدارة شروق صوّان والتي اتاحت لنا التحدث مع الأستاذ يوسف.


























